فصل: فَصْــل: الضر لا يكشفه إلا الله

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ فَصْــل

وأما قول السائل‏:‏ لم كانت موجبة لكشف الضر‏؟‏ فذلك لأن الضر لا يكشفه إلا اللّه‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 107‏]‏، والذنوب سبب للضر، والاستغفار يزيل أسبابه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏، فأخبر أنه سبحانه لا يعذب مستغفرًا‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من أكثر الاستغفار جعل اللّه له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب‏)‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، اعتراف بالذنب وهو استغفار، فإن هذا الاعتراف متضمن طلب المغفرة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏، تحقيق لتوحيد الإلهية، فإن الخير لا موجب له إلا مشيئة اللّه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، والمعوق له / من العبد هو ذنوبه، وما كان خارجًا عن قدرة العبد، فهو من اللّه، وإن كانت أفعال العباد بقدر اللّه تعالى، لكن اللّه جعل فعل المأمور وترك المحظور سببًا للنجاة، والسعادة، فشهادة التوحيد تفتح باب الخير، والاستغفار من الذنوب يغلق باب الشر‏.‏

ولهذا ينبغي للعبد ألا يعلق رجاءه إلا باللّه، ولا يخاف من اللّه أن يظلمه، فإن اللّه لا يظلم الناس شيئًا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، بل يخاف أن يجزيه بذنوبه، وهذا معنى ما روى عن على ـ رضي اللّه عنه ـ أنه قال‏:‏ لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه‏.‏

وفي الحديث المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه دخل على مريض فقال‏:‏ ‏(‏كيف تجدك ‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ أرجو اللّه وأخاف ذنوبي، فقال‏:‏ ‏(‏ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن، إلا أعطاه اللّه ما يرجو، وآمنه مما يخاف‏)‏‏.‏

فالرجاء ينبغي أن يتعلق باللّه، ولا يتعلق بمخلوق، ولا بقوة العبد، ولا عمله؛ فإن تعلىق الرجاء بغير اللّه إشراك، وإن كان اللّه قد جعل لها أسبابًا، فالسبب لا يسـتقل بنفسه، بل لابد له من معاون، ولابد أن يمنع المعارض المعوق له، وهو لا يحصل، ويبقى إلا بمشيئة اللّه ـ تعالى‏.‏

/ولهذا قيل‏:‏ الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشرع؛ ولهذا قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ‏.‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ‏}‏ ‏[‏الشرح‏:‏ 7، 8‏]‏، فأمر بأن تكون الرغبة إليه وحده، وقال‏:‏ ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 23‏]‏، فالقلب لا يتوكل إلا على من يرجوه، فمن رجا قوته، أو عمله، أو علمه، أو حاله، أو صديقه، أو قرابته، أو شيخه، أو ملكه، أو ماله، غير ناظر إلى اللّه كان فيه نوع توكل على ذلك السبب، وما رجا أحد مخلوقًا أو توكل عليه إلا خاب ظنه فيه، فإنه مشرك‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 31‏]‏، وكذلك المشرك يخاف المخلوقين، ويرجوهم، فيحصل له رعب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا‏}‏ ‏[‏ آل عمران‏:‏ 151‏]‏‏.‏

والخالص من الشرك يحصل له الأمن، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الظلم هنا بالشرك‏.‏ ففي الصحيح عن ابن مسعود أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما هذا الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏؟‏‏)‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏، / وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ‏.‏ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ‏.‏ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165ـ167‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا‏.‏ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمْ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 56، 57‏]‏؛ ولهذا يذكر اللّه الأسباب، ويأمر بأن لا يعتمد عليها، ولا يرجى إلا اللّه، قال تعالى ـ لما أنزل الملائكة ـ‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 126‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 160‏]‏‏.‏

وقد قدمنا أن الدعاء نوعان‏:‏ دعاء عبادة، ودعاء مسألة‏.‏

وكلاهما لا يصلح إلا للّه، فمن جعل مع اللّه إلهًا آخر قعد مذمومًا مخذولًا، والراجي سائل طالب فلا يصلح أن يرجو إلا اللّه، ولايسأل / غيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مُشْرِف فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك‏)‏‏.‏ فالمشرف الذي يستشرف بقلبه، والسائل الذي يسأل بلسانه، وفي الحديث الذي في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ أصابتنا فاقة فجئت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لأسأله فوجدته يخطب الناس وهو يقول‏:‏ ‏(‏أيها الناس، واللّه مهما يكن عندنا من خير فلن ندخره عنكم، وإنه من يَسْتَغْنِ يغنه اللّه، ومن يستعفف يعفه اللّه، ومن يَتَصَبَّرْ يصبره اللّه، وما أعطى أحد عطاء خيرًا وأوسع من الصبر‏)‏‏.‏

والاستغناء ألا يرجو بقلبه أحدًا فيستشرف إليه، والاستعفاف ألا يسأل بلسانه أحدًا؛ ولهذا لما سئل أحمد بن حنبل عن التوكل، فقال‏:‏ قطع الاستشراف إلى الخلق، أي‏:‏ لا يكون في قلبك أن أحدًا يأتيك بشىء، فقيل له‏:‏ فما الحجة في ذلك ‏؟‏ فقال‏:‏ قول الخليل لما قال له جبرائيل‏:‏ هل لك من حاجة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أما إليك فلا‏)‏‏.‏

فهذا وما يشبهه مما يبين أن العبد في طلب ما ينفعه، ودفع ما يضره، لا يوجه قلبه إلا إلى الله؛ فلهذا قال المكروب‏:‏ ‏{‏لاَّ إلّهّ إلاَّ أّنتّ‏}‏، ومثل هذا ما في الصحيحين عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ عند الكرب‏:‏ ‏(‏لا إله إلا اللّه العظيم الحليم، لا إله إلا اللّه رب العرش العظيم، / لا إله إلا اللّه رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم‏)‏‏.‏ فإن هذه الكلمات فيها تحقيق التوحيد، وتأله العبد ربه، وتعلق رجائه به وحده لا شريك له، وهي لفظ خبر يتضمن الطلب‏.‏

والناس، وإن كانوا يقولون بألسنتهم‏:‏ لا إله إلا اللّه، فقول العبد لها مخلصًا من قلبه له حقيقة أخرى، وبحسب تحقيق التوحيد تكمل طاعة اللّه‏.‏ قال تعالى‏:‏ أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ‏.‏ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 43، 44‏]‏، فمن جعل ما يألهه هو ما يهواه، فقد اتخذ إلهه هواه، أي‏:‏ جعل معبوده هو ما يهواه، وهذا حال المشركين الذين يعبد أحدهم ما يستحسنه، فهم يتخذون أندادًا من دون اللّه يحبونهم كحب الله؛ ولهذا قال الخليل‏:‏ ‏{‏لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏

فإن قومه لم يكونوا منكرين للصانع، ولكن كان أحدهم يعبد ما يستحسنه ويظنه نافعًا له كالشمس والقمر والكواكب، والخليل بين أن الآفل يغيب عن عابده، وتحجبه عنه الحواجب، فلا يرى عابده ولا يسمع كلامه، ولا يعلم حاله، ولا ينفعه، ولا يضره بسبب ولا غيره، فأي وجه لعبادة من يأفل‏؟‏‏!‏

وكلما حقق العبد الإخلاص في قول‏:‏ لا إله إلا اللّه، خرج من قلبه / تأله ما يهواه، وتصرف عنه المعاصي والذنوب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 24‏]‏، فلعل صرف السوء والفحشاء عنه بأنه من عباد اللّه المخلصين، وهؤلاء هم الذين قال فيهم‏:‏ ‏{‏إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 42‏]‏، وقال الشيطان‏:‏ ‏{‏فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ‏.‏ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82، 83‏]‏، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا اللّه مخلصًا من قلبه، حرمه اللّه على النار‏)‏‏.‏

فإن الإخلاص ينفي أسباب دخول النار، فمن دخل النار من القائلين لا إله إلا اللّه لم يحقق إخلاصها المحرم له على النار، بل كان في قلبه نوع من الشرك الذي أوقعه فيما أدخله النار، والشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل؛ ولهذا كان العبد مأمورًا في كل صلاة أن يقول‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏، والشيطان يأمر بالشرك والنفس تطيعه في ذلك، فلا تزال النفس تلتفت إلى غير اللّه؛ إما خوفًا منه، وإما رجاء له، فلا يزال العبد مفتقرًا إلى تخليص توحيده من شوائب الشرك‏.‏ وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏يقول الشيطان‏:‏ أهلكت الناس بالذنوب وأهلكوني بلا إله إلا اللّه والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا‏)‏‏.‏

/فصاحب الهوى الذي اتبع هواه بغير هدى من اللّه، له نصيب ممن اتخذ إلهه هواه، فصار فيه شرك منعه من الاستغفار، وأما من حقق التوحيد والاستغفار، فلابد أن يرفع عنه الشر؛فلهذا قال ذو النون‏:‏ ‏{‏لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 87‏]‏‏.‏

ولهذا يقرن اللّه بين التوحيد والاستغفار في غير موضع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 19‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ‏.‏ وَأَنْ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 2، 3‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 50 ـ 52‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وخاتمة المجلس‏:‏ ‏(‏سبحانك اللّهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك‏)‏ إن كان مجلس رحمة كانت كالطابع عليه، وإن كان مجلس لغو كانت كفارة له، وقد روى أيضًا أنها تقال في آخر الوضوء بعد أن يقال‏:‏ ‏(‏أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللّهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين‏)‏‏.‏

وهذا الذكر يتضمن التوحيد والاستغفار، فإن صدره الشهادتان / اللتان هما أصلا الدين وجماعه، فإن جميع الدين داخل في الشهادتين؛ إذ مضمونهما ألا نعبد إلا اللّه، وأن نطيع رسوله، والدين كله داخل في هذا في عبادة اللّه بطاعة اللّه، وطاعة رسوله، وكل ما يجب أو يستحب داخل في طاعة اللّه ورسوله‏.‏

وقد روى أنه يقول‏:‏ ‏(‏سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك‏)‏ وهذا كفارة المجلس، فقد شرع في آخر المجلس وفي آخر الوضوء، وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يختم الصلاة، كما في الحديث الصحيح أنه كان يقول في آخر صلاته‏:‏ ‏(‏اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت‏)‏ وهنا قدم الدعاء وختمه بالتوحيد؛ لأن الدعاء مأمور به في آخر الصلاة، وختم بالتوحيد ليختم الصلاة بأفضل الأمرين وهو التوحيد، بخلاف ما لم يقصد في هذا فإن تقديم التوحيد أفضل‏.‏

فإن جنس الدعاء الذي هو ثناء وعبادة أفضل من جنس الدعاء الذي هو سؤال وطلب، وإن كان المفضول قد يفضل على الفاضل في موضعه الخاص، بسبب وبأشياء أخر، كما أن الصلاة أفضل من القراءة، والقراءة أفضل من الذكر الذي هو ثناء، والذكر أفضل من الدعاء الذي هو سؤال، ومع هذا فالمفضول له أمكنة، وأزمنة، / وأحوال يكون فيها أفضل من الفاضل، لكن أول الدين وآخره وظاهره وباطنه هو التوحيد، وإخلاص الدين كله للّه هو تحقيق قول لا إله إلا اللّه‏.‏

فإن المسلمين وإن اشتركوا في الإقرار بها، فهم متفاضلون في تحقيقها تفاضلًا لا نقدر أن نضبطه، حتى إن كثيرًا منهم يظنون أن التوحيد المفروض‏:‏ هو الإقرار والتصديق بأن اللّه خالق كل شيء وربه، ولا يميزون بين الإقرار بتوحيد الربوبية، الذي أقر به مشركو العرب، وبين توحيد الإلهية، الذي دعاهم إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولا يجمعون بين التوحيد القولي والعملي‏.‏

فإن المشركين ما كانوا يقولون‏:‏ إن العالم خلقه اثنان، ولا أن مع اللّه ربًا ينفرد دونه بخلق شيء، بل كانوا كما قال اللّه عنهم‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏ لقمان‏:‏ 25‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ لِمَنْ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ‏.‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ّ‏.‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏.‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏.‏ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ‏.‏ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّا تُسْحَرُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 84 ـ 89‏]‏‏.‏

وكانوا مع إقرارهم بأن اللّه هو الخالق وحده يجعلون معه آلهة / أخرى، يجعلونهم شفعاء لهم إليه، ويقولون‏:‏ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللّه زلفى، ويحبونهم كحب اللّه‏.‏

والإشراك في الحب والعبادة والدعاء والسؤال، غير الإشراك في الاعتقاد والإقرار‏.‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 165‏]‏، فمن أحب مخلوقًا كما يحب الخالق فهو مشرك به، قد اتخذ من دون اللّه أندادًا يحبهم كحب الله‏.‏ وإن كان مقرًا بأن اللّه خالقه‏.‏

ولهذا فرق اللّه ورسوله بين من أحب مخلوقًا للّه، وبين من أحب مخلوقًا مع اللّه، فالأول يكون اللّه هو محبوبه ومعبوده الذي هو منتهى حبه وعبادته لا يحب معه غيره، لكنه لما علم أن اللّه يحب أنبياءه وعباده الصالحين، أحبهم لأجله، وكذلك لما علم أن اللّه يحب فعل المأمور وترك المحظور أحب ذلك، فكان حبه لما يحبه تابعًا لمحبة اللّه، وفرعًا عليه وداخلًا فيه‏.‏

بخلاف من أحب مع اللّه فجعله ندًا للّه يرجوه ويخافه، أو يطيعه من غير أن يعلم أن طاعته طاعة للّه، ويتخذه شفيعًا له من غير أن يعلم أن الله يأذن له أن يشفع فيه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 81‏]‏، / وقال تعالى‏:‏ ‏{‏اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 31‏]‏، وقد قال عَدِيّ بن حاتم للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما عبدوهم، قال‏:‏ ‏(‏أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم إياهم‏)‏‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 21‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا‏.‏ يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ‏.‏ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 27 ـ 29‏]‏‏.‏

فالرسول وجبت طاعته؛ لأنه من يطع الرسول فقد أطاع اللّه، فالحلال ما حلله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، ومن سوى الرسول من العلماء، والمشايخ، والأمراء، والملوك إنما تجب طاعتهم، إذا كانت طاعتهم طاعة للّه، وهم إذا أمر اللّه ورسوله بطاعتهم، فطاعتهم داخلة في طاعة الرسول، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏‏.‏

فلم يقل‏:‏ وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولى الأمر منكم، بل جعل طاعة أولي الأمر داخلة في طاعة الرسول، وطاعة الرسول طاعة للّه، وأعاد الفعل في طاعة الرسول، دون طاعة أولي الأمر، فإنه من يطع الرسول / فقد أطاع الله، فليس لأحد إذا أمره الرسول بأمر أن ينظر هل أمر اللّه به أم لا، بخلاف أولي الأمر فإنهم قد يأمرون بمعصية اللّه، فليس كل من أطاعهم مطيعًا للّه، بل لابد فيما يأمرون به أن يعلم أنه ليس معصية للّه، وينظر هل أمر اللّه به أم لا، سواء كان أولى الأمر من العلماء أو الأمراء، ويدخل في هذا تقليد العلماء وطاعة أمراء السرايا وغير ذلك؛وبهذا يكون الدين كله للّه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏ الأنفال‏:‏ 39‏]‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له‏:‏ يا رسول اللّه، الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل اللّه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏من قاتل لتكون كلمة اللّه هي العليا فهو في سبيل اللّه‏)‏‏.‏

ثم إن كثيرًا من الناس يحب خليفة أو عالمًا أو شيخًا أو أميرًا، فيجعله ندًا للّه، وإن كان قد يقول‏:‏ إنه يحبه للّه‏.‏

فمن جعل غير الرسول تجب طاعته في كل ما يأمر به، وينهى عنه، وإن خالف أمر اللّه ورسوله، فقد جعله ندًا، وربما صنع به كما تصنع النصارى بالمسيح، ويدعوه ويستغيث به، ويوالي أولياءه، ويعادي أعداءه مع إيجابه طاعته في كل ما يأمر به، وينهى عنه، ويحلله ويحرمه، ويقيمه مقام اللّه ورسوله، فهذا من الشرك الذي يدخل أصحابه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏165‏]‏‏.‏